عرض مشاركة واحدة
قديم 06-28-2005, 12:42 PM   رقم المشاركة : 3
عضو نشيط





كحيلان غير متصل

كحيلان is on a distinguished road


 

مشاركة: روايه صدام حسين ( اخرج منها يا ملعون) حصرياً

الجزء الثالث

الفروة.. اضافة لكوز ماء (مثلوم) من اكثر من مكان، وقربة ماء بالكاد تكفي شربة او شربتين لشخص واحد فقط.. وكان لا يطبخ في بيته او يستأجر من يخبز له.. ذلك لانه كان يأكل في بيت ابراهيم.. وربما كان هذا واحدا من اهم الاسباب التي جعلته يسكن قرب بيت ابراهيم، بالاضافة الى ان منزله قرب بيت ابراهيم يجعله يتمتع بالحماية التي يوفرها من يعيش على خير ابراهيم وما كان يحظى به من احترام وتقدير وهيبة ومحبة بين الناس، مما جعل حسقيل يطمئن على ما يمكله من ذهب، ومع ذلك كان لا ينام الا بعد ان يشد كيس الذهب على بطنه، في الوقت الذي ينتقل معه.. حتى الى بيت جده.. بل إن بيت جده كان المكان الوحيد الذي يذهب اليه بعد ان يترك بيته.
اتجه حسقيل الى الحدادة في بادئ الامر، ذلك لان هذه الحرفة لم تكن من الحرف التي تستهوي العرب، ولذلك لم يكن منهم من ينافسه عليها، ولذلك ايضا بدأ بها، وكان اول عمل بدأ به هو انه صار يحذو الخيل، وكان كلما علم بوجود ميدان بذاته لسباق الخيل قد اتفق عليه مسبقا ليقام عليه سباق او لعبة فرسان سلمية فوق ظهور الخيل في مناسبة بعينها، ذهب بنفسه، او استعان بمن يستكريهم ليجمعوا له حصى صغيرة او يجزئوا الحصى الكبيرة نسبيا الى اجزاء صغيرة، بعضها حاد كشفرة، وذلك بضرب الحصا ببعضه.. وعندما يتجمع له منه ما يقرره، يذهب خلسة الى الميدان، لينثره في التربة هناك، بحيث تؤذي حوافر الخيل عندما تتسابق او يلعب فوقها الفرسان بالمطاردة (بالطراد) الى الحد الذي يضطر اصحابها ليستعينوا به ليحذوها.. ولانه الوحيد في منطقته، فقد كان يفرض اجره (بالعالي) وغالبا ما كان يجعل حذوة الحصان او الفرس غير ثابتة بما يكفي، بحيث يضطر اصحاب الخيول الى الاتيان بخيولهم اليه، ليعيدوا حذوها، او بفواصل زمنية قصيرة، وبذلك يزداد الطلب عليه، ويزداد اسغلاله وتكبر ثروته.
وبعد ان تحسنت اوضاعه اتجه الى صناعة السيوف والخناجر، ثم من بعدها الى صياغة الحلي.. وعندما صار يصنع السيوف والخناجر، كان يعمد الى اثارة فتن بين القبائل، ليضرب قبيلة بقبيلة، فتتجه على هذا الاساس الى شراء وحيازة المزيد من الرماح والقضبان والسهام والنبال والسيوف والخناجر والدروع والتروس.. وبعد ان وسع حسقيل قدراته في الانتاج، صار يشغل بالاجرة اعدادا من الناس، لكنه كان يعلم كلا منهم جانبا من الحرفة، بحيث لا يستطيع اي منهم ان يعمل شيئا كاملا منها من غير ان يستعين بحسقيل.. وبينما كان حسقيل ينظم شبكة من الاجراء لبث الشائعات والفتن، واغراء من يغرونه على قول شعر هجاء بحق هذا او ذاك من وجوه قوم آخرين لتنشب النزاعات والقتال ليستفيد حسقيل، كان كل من محمود ويوسف يتتلمذ على يدي جدهما في تعلم الحكمة، ورسوخ الايمان في نفسيهما وعقليهما، وكانت طاعة جدهما في كل ما يأمرهما ويكلفهما به هي المدخل الاساس وعنوان شخصيتيهما الى الايمان العظيم بالله الواحد الاحد.. وكانا يتعاملان مع جدتهما حليمة بنفس روح التقدير والاحترام والطاعة لجدهما، ولكن على وفق درجتها واستحقاقها.. وكانت محبة الناس لهما تزداد وتتسع.. وكلما جاء من يريد ان يستشير جدهما في امر ديني، أو شأن حياتي يقتضي حله الحكمة، ويقدر جدهما ان ايا منهما على وجه التحديد قادر على حله، كان يحيل اليه من يتوجه اليه بسؤال او استفسار او يستعين به بنصيحة لحل معضلة، وهكذا كان جدهما، كأنه اراد ان يدربهما على كل شيء يعرفه، ليتوليا حفظ الرسالة وابلاغها الى من يستعين بهما ويتبعهما بعد وفاته، وكان اي منهما كلما وجه، او افتى، او نصح بشيء عاد الى جده ليشرح له اجتهاده فيقره عليه او يصحح له وفق ما يستوجب.
في احدى السنوات، وبعد ان صار حسقيل يصنع الحلي من الذهب والفضة.. كان الوقت وقت ربيع.. ومن عادة اهل البادية في ذلك الزمن، مثلما هم حتى يومنا هذا، رغم ما يحظون به من استقرار في الوطن العربي كله، انهم كانوا يرحلون من مكان الى آخر طلبا للماء والكلأ.. وبخاصة في فصل الربيع.. وحصل ان انتقل ابراهيم، ومعه حليمة وحفيداه محمود ويوسف.. وكان حسقيل يتبعهم وينزل قربهم.. وظلوا يرحلون من مكان الى آخر، حتى حطوا رحالهم في منطقة قبيلة كبيرة، كان شيخها رجلا كريما وحكيما وشجاعا وصاروا منذ ذلك اليوم يرحلون وينزلون معه، ولكنهم لا يحطون رحالهم إلا بعد ان يركز شيخ القبيلة رمحه في مكان بعينه، وكعلامة على مكان ومكانة منزل ابراهيم كان شيخ القبيلة يبني منزله على مسافة قريبة منه.. ليضمن له الحماية وحرية الجهر بافكاره والدعوة الى ما يؤمن به كرسالة التوحيد وعبادة الله الواحد الاحد.
وفي أواخر ايام ربيع احدى السنوات التي قضاها ابراهيم في بلاد الشام متنقلا بين الفرات شرقا وبلاد الشام وبحرها غربا، وباقي اراضي شبه جزيرة العرب جنوبا.. صادف ان رحل ابراهيم مع تلك القبيلة التي تآخى مع شيخها. وبينما راح ابراهيم يستطلع المكان الذي عينه لمنزله شيخ القبيلة، وجد انه ركز رمحه في (قرية نمل).. وهذا يعني بعرف القبائل انه غير مرغوب فيه.. وقد لفت زوبعة أسى ابراهيم، ذلك لانه كان يعرف ان صاحبه شيخ القبيلة لا يطلق الأحكام على عواهنها كما يقول المثل، ولانه لم يفعل هو او زوجته ما يسيء الى شيخ القبيلة، ولا الى اي احد من افرادها ولم يفعل هذا اي من ابنائه بصورة معروفة، بمن فيهم حسقيل، فلا بد ان يكون احد ابنائه (احفاده) قد عملها بصورة سرية.. ومن يكون غير المرأة والعلاقة معها مما يفعله شاب تزل قدمه عن موضعها او يخالط عفته عفن؟ ورغم انه خمن ان يكون حسقيل هو الذي اقترف هذه الفعلة، فقد اراد ان يعرف بصورة غير مباشرة، ولان من عادة كبير العائلة ان يتقدم الضعن قبل وصوله المكان المقرر، فقد عاد ابراهيم أدراجه ليلتقي بعائلته المضعنة، وعندما رأى ابناؤه وزوجته جدتهم ان ابراهيم عاد اليهم بخلاف ما اعتادوا عليه، توقفوا واجتمعوا اليه يسألونه:
ـ خير، يا والدي؟
وقالت حليمة:
ـ خير ان شاء الله يا ابراهيم؟
ولكن حسقيل قال:
ـ ماذا حصل، يا جدي؟
اجاب ابراهيم:
ـ إن شاء الله خير، يا رب.. لقد فكرت في ان نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا وفي مكان ما في منتصف الطريق، نقيم ريثما نقرر اتجاهنا الجديد، وقد نعود الى حافة نهر الفرات في وسطه حيث العراق واهلنا هناك، او نتجه الى الحجاز.
حاول حسقيل ان يخالف توجيه جده، لكن الاشارات التي فهمها من محمود ويوسف لم تنبئ بان باستطاعته ان يقرر منفردا برأيه خلافا لما يريده ابراهيم.. ذلك لان الجميع فهموا ان ابراهيم ما كان ينفصل عن قبيلة صاحبه وحيث نزلوا الا لامر جلل.. لم يفهم حسقيل ذلك، او انه اراد ان لا يفهم، جريا خلف ما درت عليه مهنته في كنف تلك القبيلة الكبيرة، وانجرارا خلف ما صار عليه طمعه، بعد ان بنوا بيوت الشعر بما في ذلك البيت المخصص لحسقيل وبيوت الرعاة.
استدعى ابراهيم اولاد ابنائه الثلاثة.. وانفرد بهم واحدا واحدا، مبتدئا بالصغير، محمود، وقال له:
ـ ان لـ (خوينا) مصعب ـ اي اخينا ـ شيخ القبيلة بنتا حلوة تغري كل رجل.. هل دنوت منها؟ ألم تستطع ان تغريها، يا ولدي؟ انها جميلة وتستحقك.. وانت تستحقها اكثر من غيرك..
جفل محمود واحمرت عيناه.. بل كادت تخرجان من محجريهما.. وكاد يسحب سيفه من جنبه، بعد ان نسي من شدة ما غشيه من غضب، ان من يخاطبه هو جده ابراهيم.. وعندها قال لابراهيم:
ـ يا للعار، لو فعلنا سوءا كهذا! كيف تقول هذا، يا والدي، وابو البنت (خويك) وقد انزلنا في كنفه، وضمن لنا حرية التبشير بآرائنا، وحمانا؟ والله، يا والدي لو لم تكن ابي، ولو خمنت انك مستقر على رأيك هذا، لكنت اتخذت موقفا لا ارضاه لنفسي ولا ترضاه عني، ولفارقتك من يومنا هذا، وربنا الغفور الرحيم.
قال ابراهيم:
ـ (عفية)، يا ولدي.. اكتمها عن اخويك.. وإذا سألاك بعد خروجك افتعل لهما اي شيء ولا تقل ما قتله لك.
وعده محمود بذلك، وهدأ روعه، ثم خرج، ودخل يوسف وكان موقفه وجوابه كموقف محمود وجوابه لابيه، الذي قال له ما قاله لمحمود.. بعدها جاء دور حسقيل.. وقبل ان يدخل، كان ابراهيم يداور الأمر مع نفسه: اتراه فعل الفعلة المخزية، هذا اللعين حسقيل؟ اتراه هو الذي سوّد وجوهنا وموقفنا امام ابن الحلال، (خوينا) شيخ القبيلة مصعب!؟
ثم يعود ليقول في نفسه: ان أمه عفيفة وابنة رجل شريف وان اباه ابني، وانا واثق من امه.. وواثق من نفسي، ومن طهارة حليمة.. ولكن من اين جاءه هذا العرق النجس؟ ربما جاءه من اي من اخواله.. وربما من اي من اعمامنا.. وعندما قال الجملة الاخيرة، بدا كأنه يقولها من غير قناعة مستقرة.. ولكن هل يمكن ان يتصور شيخ القبيلة خطأ ينسبه الينا متوهما؟ ثم يعود ليقول: انه رجل حصيف بل حكيم حقا، ويعرف حقوق الله عليه، وحقوق الناس، ويعرف واجباته ازاء ربه، وازاء الناس.. وهو رجل يكن لي تقديرا ومحبة خاصين، ولا يمكن ان يلقي التهم جزافا، او يفرط بي من غير ان يكون مضطرا لذلك.. فلأدع هذا الملعون، وسيكون كل شيء واضحا ومفهوما بعد ذلك.
استدعى ابراهيم حسقيل، عندما لم يجد في تصرف اي من محمود او يوسف ما يعيب وكرر عليه ما قاله لهما.. وقد ظن حسقيل انه امر يدل على كفاءة خاصة، ان هو افضى لجده بحقيقة ما فعله.
قال حسقيل:
ـ اتعرف، يا جدي، لماذا عاكستكم في الرغبة، عندما عدت من مرافقة والدها، وابلغتنا بأن نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا الى حيث نحن الآن!؟
قال ابراهيم:
ـ لا اعرف، ولا استطيع ان اخمن.
قال حسقيل:
ـ كانت بنت مضيفنا ذاك تمر عليّ، لتعرف ماذا لديّ من حلي، وعندما ارادت يوما ان تعرف ما اذا كانت احدى القلادات على قياسها ام لا، امسكت بها من ثديها، لكنها جفلت مني، في الوقت الذي كانت خادمتها خارج البيت، وقد لحقتها وامسكت بها قبل ان تخرج من بيت الشعر، ووضعت كف يدي اليسرى على فمها، وطوقتها بيدي اليمنى، وسحبتها الى الركن البعيد في البيت وهممت بها، وكدت ان افعلها، لانني اعرف انها يتعذر عليها ان تصرخ وتستنجد خشية ان يلحقها عار الفضيحة، لكنها امهلتني لليوم التالي، وحلفت انها ستفي بوعدها، ورغم ان هذا ليس هو الذي منعني منها، وانما صوت خادمتها وهي تصيح باسمها، وتستعجلها لتعودا للبيت، فإني قبلت من جانبي تأجيل ما كنت انوي فعله، بأمل ان افعله معها اليوم، ولكن اليوم كان يوم رحيلنا ولذلك كنت اعاكسكم في الاتجاه. وفي نيتي ان الحق بها الى هناك، لاحصل على بغيتي.
عندما كان حسقيل يسرد قصته مع ابنة مضيفهم، شيخ القبيلة كانت الارض كأنها تميد بابراهيم فقام من فوره وصفعه بأقوى ما يستطيع حتى ادمى انفه، وصاح بيوسف ومحمود ان يحضرا وامرهما بأن يربطا يدي حسقيل خلف ظهره، وقال بحزم:
ـ اقتلاه، اذا قاومكما.
عرف حسقيل الامر وصرامته فاستسلم من غير مقاومة، وعندما اكمل محمود ويوسف تكتيفه، امرهما باحضار فرسه واحضار حمار ليضع فوقه الخاسئ حسقيل، وان يأتيا له بسيف وقوس، وبعد ان تقلد سيفه ووضع جعبة السهام خلف ظهره، وامسك بالقوس بيده، وهو امر لم يفعله ابراهيم منذ وقت طويل، ذلك انه لم يكن بحاجة اليه وهو حكيم الامة ومرشدها لكنه هذه المرة كان بحاجة اليه ليتدبر امر حسقيل، خشية ان يهرب منه وهما في الطريق الى شيخ القبيلة المقصود.
ما ان استوى حسقيل على ظهر الحمار، واتجه به معقبا اثر قافلة الشيخ الجليل، حتى امتطى ابراهيم فرسه، وصار خلف الحمار ليلكزه بعصاه عندما (يحرن)، ليستمر في سيره. وما ان لاحت مواقع بيوت شيخ القبيلة من بعيد، تحيط بها بيوت الشعر لعشيرته، حتى لاحظ ابراهيم ان احدهم خرج من البيوت على ظهر فرسه.. التي جاءت (تهذب) باتجاهه.
عرف ابراهيم الفرس من لونها الاشهب، وعرف من وضعية فارسها انه صاحبه لا محالة، وخمن ان هناك من قال له «انني جئت معقبا اثرهم ـ هكذا قال ابراهيم في نفسه ـ وان معي احدهم فوق ظهر الحمار، وانني اهتديت الى السبب الذي جعله يرحل هذا اليوم، ويفصل منزلنا عنهم، عندما وضع رمحه في عين (قرية) نمل، بمعنى انعدام الرغبة في المجاورة، وان الشيخ جاء خارج منزل القبيلة لكي لا تعرف شيئا عن وصول ابراهيم الى مضيف الشيخ، لانها عندما تعرف يتعقد الامر على الشيخ، وتكون المرونة لديه محدودة خارج ما اعتادت عليه هذه القبيلة وكل قبائل العرب، وهو القتل لمن يتحرش بامرأة بخلاف رضاها، وقتل المرأة والرجل اذا كان برضاها».
عندما وصل شيخ القبيلة وصار على مقربة من ابراهيم، قفز من على ظهر فرسه الى الارض، مما جعل ابراهيم ينزل عن ظهر فرسه ايضا، وبدلا من ان يسلم على ابراهيم باليد، او يقول اي شيء احتضنه من فوره، وصار يقبله على وجهه وجبينه ورقبته، وهو ينتحب ويقول: ـ (عفية اخوي) انت قدوتنا في الحكمة، وقد تأكدت اليوم بصورة اعمق انك قدوتنا في احقاق الحق ايضا، بعد ان كنت تدعونا اليه وترشدنا لان نحكم ونؤسس علاقتنا عليه.. لقد عرفت انك ستهتدي الى السبب الذي جعلني انفصل عنك، وعرفت بيقين انك سترضيني وتنصفني، لانني متيقن من انك تعمل لارضاء الله.. وبعد ان صار كل العرب يسيرون على سنتك ومنهجك، فانك في الوقت الذي تتمسك بحقك على الناس، من حق الناس ان يتمسكوا بحقهم عليك، ولقد تصرفت وفق ما رأيت لانني واثق من انك

 







توقيع :

  رد مع اقتباس