اعتاد أكثر الناس أن يدندنوا وهم يمارسون أعمالهم المختلفة، وما أحوج الإنسان وهو يسير في صحراء مترامية الأطراف، حيث لا صوت إلاّ تناوح الرياح إن انبعثت، أو مكاء القمريّ، ما أحوجه والحال كهذه إلى رفيق يسامره أو تسبيح يردّده أو لحنٍ يرسله ليؤنس نفسه أو يروّح عنها من وعثاء السفر، قال الشاعر واصفاً عودة قوافل الحجيج من منى:
ولمّا قضينـا من منىً كلّ حاجةٍ ومسّح بالأركانِ من هو ماسحُ
وشُدّت على حُـدُبِ المطايا رحالنا لا ينظرُ الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناقِ المطيّ الأباطحُ
نقعنـا قلوبـاً بالأحاديث فاشتفت بذاك قلوبٌ منضجاتٌ قرائحُ
وما هـمّنا الدهر على كلّ حالةٍ ولا راعنا منه سنيحٌ وبارحُ
وكأنّ الريح أحياناً تريد أن تقلع الركبان من مقاعدهم فيلوذون بأكوارهم كما وصف الفرزدق:
وركبٍ كأنّ الريحَ تطلبُ عندهم لها تِرةً مـن جذبـها بالعصائبِ
سروا يخبطون الليل وهي تلفّهم إلى شُعبِ الأكوار من كلّ جانبِ
إذا أبصروا ناراً يقـولون ليـتها وقـد خَصرت أيديهمُ نارُ غالبِ
وهذا الظلماوي الشاعر الشعبيّ يصف مشهداً مشابهاً:
شبّ النار يا كليب شبّا ** عليك شبّا والحطب لك يجابِ
وارجد عليها من هشيمٍ وخبّا ** خلّي سناها يجيب ربعٍ غيابِ
بشماليّةٍ يا كليب شنعٍ مهبّا ** متكتفين وسوقـهم بالعقابِ
وعندما كان المسافرون يمتطون ظهور إبلهم، كانوا يحدون، مثل:
يا حادي العيس عرّج كي نودّعهم ** يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ
وقد أطلق على أحد أنواع هذا الحداء الذي يردده راكبو الهجن اسم: الهجيني.
التسمية:
اشتقّ اسم "الهجيني" من الهِجِن وهي الإبل المروّضة الصافية المخصّصة للركب فقط، وهي تختلف عن إبل حمل الأثقال وإبل اللّحم، وهي خفيفة متناسقة الجسم، جَلِدَة على السير، سريعة العدو، من أصنافها: العماني والمهاري والقطري والبشاري وزريقان ووضيحان ..إلخ.
خصائص الهجينيّ:
هو شعر غنائيّ موزون مقفّى يتناول شتّى مناحي الحياة، ويغنّى في الغزل والنسيب والفخر والهجاء والمدح والذمّ ... إلخ، ويغنّى بلحن يتناسب مع حركة سير الإبل وتنقّل أخفافها.
وزن الهجينيّ:
أورد الباحث عبد الله ابن خميس عدّة نماذج للهجيني وهي:
يا راكب اللّي بعيد الخدّ يوطنّه بواطن من ضرايب جيش ابن ثاني
والنموذج الثاني:
يا حمود أنا بكرتي غضّة ** والجيش قافيه خفخافِ
والنموذج الثالث:
ارفع الصوت ما هاضني طرب **والأجاويد مثلي يعذرونـه
والنموذج الرابع:
والله إنّي على الهزعة غليل الضماير ** لو ذلولي من المطراش وانٍ جهدها (1)
وفي الواقع ليس في هذه النماذج من الهجيني سوى النموذج الثاني فقط:
يا حمود أنا بكرتي غضّةْ والجيش قافيه خفخافِ
يَحْمُودَنا بَكْرِتِيْ غَضْضَهْ وَلْجَيْشِقَا فِيْهِخُفْ خَافِيْ
وقد تبع الباحث شفيق الكمالي ابن خميس وظنّ أنّ القصيدة التي مطلعها:
يا راكب اللّي بعيد الخدّ يوطنّه** بواطن من ضرايب جيش ابن ثاني (2)
وليس للهجيني وزن آخر غير هذا، رغم أنّ البعض يعتبر الغناء الذي تؤدّيه ميسون الصنّاع في الأردن من الهجينيّ مع أنّه على وزن البحر البسيط ومنه:
جابوا المحاور وكوّي يا طبيب كوّي ما ينفع الكيّ بـرّا والوجع جـوّي
في حين أنّ هذا المقطع من الهحيني:
يا بنـتِ ياللا أنـا وإيـاكْ ع الغورِ نزرعْ بساتينِ
لأزرع لاخيّي ثلاث ورداتْ وأسقيها من ميّة العينِ
وحاول الكاتب محمود مفلح البكر في كتابه الهجيني الصادر عن سلسلة كتاب الرياض أن يتلافى الخلط بين الهجيني وما عداه من أشعار نظريّاً، ولكنّه أخفق عند التطبيق في مواقع عديدة، ولم يتقيّد بالوزن الحقيقي للهجيني، والتبس عليه الأمر في إيراد النصّوص، فأتى ببيت على سبيل المثال لا الحصر يقول:
افطرت أنا والعرب صباح على ثنايا عشيرٍ لي (3)
ولا يخفى ما في الشطر الأوّل من تحريف، ولكي يستقيم الوزن والمعنى فالنصّ هو:
افطرت أنا والعرب صيّام ........................
فكيف يفطر هو والناس على ثنايا عشيره! وبعد ضبط البيت أصبح النصّ يشبه قول إحداهنّ من فنّ الرزع: فطرتني في شريف الله وأنا صايم تضحك بسنّك ورمش العين متلايم
ولا شكّ أنّ الحدث جرى وقت الصيام، وليس في الصباح، وأورد محمود البكر نصّاً:
العذر ما يقري الخطّار ليّا صار ما فكّوا الريق
والعسر ما يدرّر الابكار ليّا صار مـا به توافيق(4)
وهذا الكلام ليس موزوناً، ولا يمتّ للهجيني بصلة، وأورد الكاتب أيضاً هذا البيت:
بالوادي الغربي لاعج الصوت ما عندي حدا يسلّيني (5)
ولا يخفي أنّه من غناء الدلعونة في بلاد الشام، ولكنّه أسقط كلمة من العجز فالنصّ هو:
بالوادي الغربي لاعجّ الصوتِ ما عندي حدا يمّا يسلّيني.
ونكتفي بهذا القدر من النماذج، ولسنا في معرض تتبّع الخلل في النصوص، ولا نغمط هؤلاء الكتاب حقّهم، فقد أوردوا أبياتاً جميلة، ولكنّنا بصدد أن يكون لدى الكاتب أو القارئ دربه تجعله يميّز بين الهجيني وغيره، ويعرف مواقع الخلل الذي يلحق بالبيت المقروء أو المسموع، فالأدب الشعبيّ المنقول مشافهة يخضع غالباً للتحريف من الرواة، والنسّاخ والمنضددين.
سمات الهجينيّ:
وقصيدة الهجيني قلّما تتعدّى البيت أو البيتين، ممّا ينشد الناس العاديّون، أمّا الشعراء فبمقدورهم نظم المطوّلات منه، وهو يؤدّى بأن يرفع المغنّي عقيرته بلحن خاص بصدر البيت عدّة مرّات ثمّ يأتي بعجزه، ويؤديّه على المنوال نفسه، وهناك من يلقّن مرافقيه شطر البيت ويغنّونه معاً، وغالباً ما تكون المقطوعات معروفة لدى سكّان المنطقة فبمجرّد سماعهم لأوّل البيت يأتون بتكملته، والهجيني لا يغنّى مترافقاً مع السنّ على الربابة، بل كان إنشاده يقتصر على ظهور الهجن، خصوصاً عندما تخرج الركب من المناطق المأهولة، وتوغل في الفضاء الفسيح صباحاً مع سقوط حبّات الندى أو بعيد الزوال عندما يهبّ النسيم العليل، أو في الهزيع الأخير من الليل مع هبوب الصبا، وقد أصبح الهجيني ينظم ويعبّر به عمّا يجيش بالصدر بغضّ النظر عن وجود البعير أو عدمه، وأصبح فنّاً من فنون النظم المغنّى، وظلّ البدويّ "يهيجن" حتّى لو ركب السيّارة أو القطار فهذا الشاعر أبو عيد من خربة حامر باللّجاة، يخاطب ابنه "خمري" حين ركبا القطار في ثلاثينات القرن الفائت من درعا إلى حيفا فيقول:
يا خمري زوّع بنا البابور قطّع بنا مرج ابن عـامر
قطّع بـنا ساحــلاً وبحور وأسرع من اللـي على ضامر
لو الهنـا يرافـق المظهور ويصبح قطيـناً على حامر
من فوق حمرا تنطّ السور ومن السبق بطـنها ضامر
وأفرح أنا بشوفة الغندور وأحظى أنـا بلابس الـدامر
استخدم الشاعر لفظة زوّع التي يوصف بها البعير حين يجفل وينطلق من عقاله، أو تنعت بها الغزال النافر، فوصف بها حركة القطار حين انطلاقه من المحطّة بين الهضاب، وقال إنّ هذا القطار كان أسرع من الهجن المضمّرة للجري، وهو لا شكّ أسرع، وتمنّى الشاعر في البيت الثالث لو أنّ السعد يواتيه فيجد نفسه فجأة عائداً إلى مسكنه في موطنه حامر ولو أنّه صعيد بلقع، مع أنّه أشرف على ساحل البحر حيث النسيم العليل المنعش والماء الزلال والفواكه والظلال الوارفة، لذلك قيل: "المربى قتّال" وتمنّى أن يعود إلى بلاده فوق بكرة ضامرة البطن نشيطة، ويفرح بمقابلة زوجته التي ترتدي الدامر.
نماذج من الهجينيّ:
هذه المقطوعة اشتهرت بين الناس حيث تقول:
القـلب ورّدْ على ذَبْلهْ مار البلا إن كان تنحاني
ما هي خفيفهْ ولا خبلهْ يا لـيتهـا عُقُـبْ عـمّاني
مبسم الترفْ بـه قبلهْ وأنا ما جيته ولا جـاني
ونهيدها يوم تَقْـربْ لـه لون الزبيـدي بريضاني
يا ليتني طير وأرقب له وأهفها فـوق جنحاني (6)
إنّ قلب الشاعر أورده منهل الحسناء "ذبلة" واسمها من الزهرة الذابلة حياءً، فمن البلاء أن تنحاه جانباً وتصدّه، ثمّ يصفها بالرزانة ورجاحة العقل، ليست بطائشة خفيفة العقل، وليس بها خبل، وتمنّى أن يجدها ويخلو بها بعد عمّان، ويصف مبسمها بأنّه مغرٍ وكأنّها نيطت به خرزة القبلة؛ التي يحظى بالقبول من علّقها وهي من التمائم، وهنا يذكّر الشاعر بأنّه لم يدنُ من هذه الفتاة، وهي كذلك لم تدنُ منه، ونهدها كالكمأة في الروض حين تقترب منه، وأتى "نهيدها" مصغّراً وكثيراً ما شبّه الشعراء النهد بالكمأة فهذا الشاعر يقول:
ونهودها يا خليف حقّ الزبادي فنجال صيني كن دايرنه ع الاشفاف
ويتمنّى الشاعر أن يكون صقراً "طيراً حرّاً" وهي حباري طائرة فيغفّها فوق جناحيه، ويحلّق بها عالياً، واشتهر هذان البيتان في بادية الشام:
الشمس غابت يا ابن شعلان أريد أدوّر معازيبي
الدلّة تـرهي على الفنجان وبهارهـا جوزة الطيبِ
لقد أدركنا المساء، وأوشكت الشمس على المغيب، أريد أن أعود إلى أهلي يا ابن شعلان، حيث دلال القهوة تسكبها في الفنجان شهيّة غزيرة، تفوح منها جوزة الطيب التي تخالطها.
ومن الهجينيّات التي تنسب لنوري الشعلان:
ردّوه ع المنع يا غبينـي قبـل الحناتيـر ياطنّك
بعت العهد ليه يـا شيني ما تحسب أيّام ياتـنّـك
جوا لك عيال الشعاليني ما صدّقوا يـوم شافـنّـك
بموزرٍ ضربها شينِ بأرض البساتين يرمـنّك
أمّا أنت يا طالب الدين بصاع الوفا اليوم كالنّك (7)
وقال آخر لصديق له:
أهلاً هلا يا بَعَـدْ خلّي عيني مع الناسِ رمّاقة
بالزين ما يزري القلِّ والمال ما ينفع العاقة
يرحّب بصديقه وخليله، ويقول أنا أرمق الناس علّ عيني تبصرك وتبتهج لرؤيتك، وإنّ قلّة ذات اليد لا تزري بالرجل السمح، كما أنّ المال لا يجدي نفعاً مع البخل.
وتهيجن امرأة موجّهة كلامها لرجل كان قد خطبها فتقول:
أصحى تجيني وأنا ما أجيك لا شفتني لا تعــارضني
طلـبـت ربّ الملا يعطيك وأنا عسى الله يعوّضني
احذر أن تأتيني وأنا لن آتيك، واحذر أن تقف لي في طريق، وأنا أسأل الله أن يعطيك مرادك وأن يعوّضني الله خيراً.
وقال آخر متغزّلاً:
يا سايق المزن بانصافِ يا خالقاً للغنم راعي
سنونها بيض وارهافِ يا سكّـراً بيد بيـّاعِ
يا من تسوق المزن إلى عطشى وتغيثهم، وتصخّر للأغنام راعياً يسرح بها ويرعاها ويحميها، لقد سبت لبّي هذه الفتاة ذات الثنايا البيضاء العذاب، وهذا يشبه قول شاعر القصيد:
ثمانها يا خليف درّ النجادي يمشن عفو مع زمازيم الاسلاف
أسنانها الأماميّة الثمانية ناصعة البياض كحليب النياق النجديّة التي تباري الفرسان وهم يسيرون في الطليعة، ليشربوا من حليبها ويسقوا جيادهم، وهذه النياق لا تحمل عليها الأحمال الثقيلة ليظلّ حليبها حلواً شهيّاً، لأنّ إرهاق النياق بالأحمال يعكّر حليبها.
وهذا الشاعر يتمنّى أن يشرب طرقوعاً من الحليب الذي يملأ القدر ويكون القدح طاسة تروي شاربها، ثمّ يقرن هذا بتقبيل الفتاة الربعة واضعاً يده خلف عنقها فيقول:
لا يا حلالتي الطرقوع قدر اللّبن والقدح طاسة
يا ميحلى حبّة المربـوع وأحـطّ يدّي قفا راسه
ويصرّح شاعر بأنّه إن أحبّته هذه الفتاة فسيخطفها لو أنّ أقاربها كثر، يبلغون تسعماية رجل، وإن كرهته ولم ترغب فيه فسيطرحها كما يطرح الحجر في بركة ماء.
وإن هفّني الشوق لأهفّه لو إن عمامه تسع ميّه
وإن زتّنـي الشـوق لأزتّه زتّة حجر واقـع بميّه
وقال آخر:
يا حمود أنا بكرتي غضّة والجيش قافيه خفخافِ
جا للربع فوقهن جضّة جنّـك مع الحـزم زلاّفِ
ترى اللي جيّـد حــظّه ممساه منبوز الاردافِ
راعـي جديلٍ إلى قضّة سافٍ تعلّى على سافِ (8)
يخاطب صاحبه حمود بقوله أنا "بكرتي" كناية عن الرحولة غضّة طريّة العود، والجيش قد خفّ مسرعاً، تحرّكت الإبل مسرعة تسمع لها ضوضاء وهي تتقدّم الصفوف، وترى جيّد الحظّ يمسي حيال ضخمة الأرداف، صاحبة الجدائل التي إن نقضتها وأرسلتها علا بعضها بعضاً، وانسابت متدلّية، وهذا يشبه قول الشاعر من القصيد الشعبيّ:
وقرونها يا خليف بطن الشدادِ ومن الكثر يا خليف زافٍ قفا زاف.
وأخيراً فإنّ الهجيني فنّ غنائي رفيع إن أمكن تحرّي النصوص الأصليّة من مصادرها وضبطها وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها، وأخيراً نسمع هذا الذي يندب حظّه العاثر حين طار وليفه فيقول:
طيري سرح وابعد المسراحْ لا يا حـلالات يـا طيري
شوّحت له وابعد المشواحْ واثاري عينه على غيري (9)
ولكنّ مصيبته أخفّ من مصيبة هذا الشاعر اللّيبيّ الذي آلمه تفرّق أبنائه عنه بعد أن كان يحتضنهم فقال بمرارة:
ما في الضنا خير ** ربّيتهم نين ثاروا
محضّن عليهم كما الطير ** ولمّا نبّتوا ريش طاروا (10)
مقدم البحث عبدالكريم الحشاش