كان مبدأ المساواة أهم االمبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب نحو الإسلام، وكانت هذه الشعوب مصدرا من مصادر قوة المسلمين، وجاءت السنة وهي تعد مفسرة ومكملة للقرآن صريحة في تقرير مبدأ المساواة بين المسلمين وغيرهم. وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بدأت الدولة الإسلامية وضمت المدينة المنورة الأنصار والمهاجرين، ومعهم اليهود الذين نزلوا يثرب وماحولها بعد أن أجلاهم الروم من فلسطين، واتخذوا التجارة والصناعة حرفة لهم حتى ظهروا على العرب بأموالهم، ثم عاملوهم بالربا الفاحش حتى ابتزوا كثيرا من أرضهم، فصارت لهم حصون كثيرة وقبائل هي: بنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو قريظة. ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أراد أن يجعل منها وطنا واحدا للعرب واليهود تجمعهما رابطة الوطن لا يفرق بينهما اختلاف الدين، فأبطل المعاهدات القديمة المفرقة، وعقد بينهم معاهدة تحقق الأغراض التي أرادها لهم
، وكتب بها كتابا بين المهاجرين والأنصار واليهود، والتي تضمنت حرية العقيدة، فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم غير المسلمين على دينهم، والمساواة في الحقوق والواجبات، وأقرت الوثيقة حرمة الملكية، وحرمة النفس وحق الأمن. وفي السنة الثامنة للهجرة فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، ولم يكره أحدا على الإسلام الذي كفل حرية العقيدة الدينية لغير المسلمين في الدولة الإسلامية، وقد قام الإسلام على روح التسامح وعدم التعصب، ولاينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمل أحدا على اعتناق الإسلام، وهو ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعقائد الموجودة في عهد النبوة، وهي اليهودية والنصرانية والمجوسية، وقد أطلق على هؤلاء "أهل الذمة" وهم أهل الكتاب من نصارى ويهود وغيرهم ممن يقطن داخل حدود الدولة الإسلامية، ويقرون لها بالولاء والطاعة، وسموا "ذميين" لأنهم منحوا ميثاق أو معاهدة حماية ينزلون بها عن حقوق معينة، ويستمتعون مقابل ذلك بحق الحماية والأمن للذميين وحرية الاعتقاد، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة في معظم الكتب التي وجهها إلى الأفراد والعشائر بأن يعطيهم " أمان الله ورسوله". ولا يتعارض فرض الجزية مع مبدأ المساواة، وقد نزلت آية الجزية بعد فتح مكة قال تعالى: ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )"سورة التوبة الآية39". ومع ما كان بين الرسول واليهود من عهد لكنهم نقضوا العهد وحاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا الغدر به، لكنه تسامح معهم، فعندما نقض يهود بني قينقاع العهد وحاولوا التفريق بين المسلمين حاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم حليفهم عبد الله بن أبي سلول، وحقن الرسول صلى الله عليه وسلم دماءهم وأجلاهم عن المدينة في السنة الثانية للهجرة، ولما أراد بنو النضير قتل الرسول غيلة حاصرهم ولما رأوا الهزيمة سألوه أن يجليهم ويكف عن دمائهم فأجابهم إلى طلبهم وخرجوا إلى خيبر والشام في السنة الرابعة للهجرة. ونقض بنو قريظة عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحالفوا مع الأحزاب لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نزلوا على حكم الرسول، ويلاحظ إن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عن بعضهم كما أسلم بعضهم وله صحبة، وهذا نتيجة لتسامح الرسول معهم، كما حارب الرسول يهود خيبر بعد ذلك فأبقى عليهم بعد أن استسلموا له. لم يُكره الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا على الإسلام ولم يصادر حرية أحد ولم يأمر بقتال إلا من قاتل، ولم يتعرض لأحد في ماله أو أمنه أو عرضه، وقد كفل الإسلام حرية العقيدة الدينية وجعل هذا المبدأ أصلا عاما يتفرع منه جميع الحريات الشخصية المعروفة في العصر الحديث، فعندما وجد المسلمون ـ بعد فتح خيبر ـ نسخا من التوراة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردها إلى اليهود، وهذا يبين كفالة الإسلام لحرية الرأي والعقيدة، وكذلك حرية التعليم لغير المسلمين. ونذكر واقعتين في غزوة خيبر تكشف إقرار الإسلام ومحافظته على حرمة المال والنفس حتى في أوقات الحروب. الواقعة الأولى: أسلم أحد الرعاة وكان أجيرا على غنم مملوكة ليهودي أثناء حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لخيبر، فسأل هذا الراعي الرسول عما يفعله بهذه الغنم، فأمره الرسول أن يضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى صاحبها وهو داخل حصن، فأخذ حفنة من الحصى فرمى بها في وجهها حتى دخلت الحصن، وهذا يدل على حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على حرمة المال ولو كان لعدو محارب. الواقعة الثانية: بعد فتح خيبر دخلها عبد الله بن سهل مع أخ له، ثم أخبر أخوه أنه قُتِل، فأتى اليهود فقال: أنتم والله قتلتموه، فأنكروا ذلك، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض الأنصار وأخبره بذلك، فكتب الرسول إلى اليهود في ذلك، فكتبوا إنهم ماقتلوه، ففداه الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده وبعث إلى أولياء القتيل بمائة ناقة. وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إدامة العلاقات الاجتماعية مع غير المسلمين، فقد تصدّق الرسول بصدقة على أهل بيت من اليهود، وتصدقت صفية بنت حي ابن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وسلم على يهوديين ذوي قرابة لها، فبيع ذلك الصداق بثلاثين ألفا، كما أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية، نصرانية كانت أم يهودية، لما بين المسلمين وأهل الكتاب من تقارب في العقيدة، وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، ولم يفرق الدين في حقوق الزوجية، في حين أن الشريعة اليهودية لاتجيز لليهودية التزوج بغير يهودي، كما أن اختلاف الدين من موانع الزواج في التشريع المسيحي، ويعتبر زواج المسيحية من غير المسيحي زواجا باطلا. ونرى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن معاملة غير المسلمين حينما قدم عليه وفد "النجاشي أصحمة ابن الأبجر" ملك الحبشة وهم نصارى، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك هذا، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم "1" كما منح النبي صلى الله عليه وسلم عهدا لرهبان دير سانت كاترين قرب جبل سيناء، كفل لهم من المزايا والضمانات ما لم ينعموا به في ظل ملوكهم، وتتجلى حرية العقيدة في العهد الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران في اليمن حين قال:"إنها وحاشيتها في جوار الله وذمة رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ومن سأل حقا منهم بينهم النصف غير ظالمين ولا مطلوبين"2". وقد أكد الإسلام مبدأ المساواة بين الناس جميعا، واحترام الإنسان في حياته ومماته، وفي هذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أمثلة عديدة نذكر بعضا منها، قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه:"مرت بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا، فقلنا يا رسول الله :إنها جنازة يهودي. قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع"3". وكانت أم الحارث بن أبي ربيعة نصرانية،فلما ماتت شيعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل معاهدا لم يرح رائحة لجنة"4"، وقوله عليه الصلاة والسلام " من آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة"، وكان آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال:احفظوني في ذمتي". وهكذا يظهر تسامح الإسلام في مواقفه المشرفة من مخالفيه وفي تساهله معهم، فقد أبقى عليهم تحت حكمه، واحترمهم وقربهم في المناصب وعاملهم بالحسنى، فلم يُكره أي فرد أو جماعة من اليهود أو النصارى وغيرهم على اعتناق الدين الإسلامي في جميع العصور الإسلامية، وقد نفى القرآن صراحة الإكراه في الدين وشدد على حرية الاعتقاد، قال تعالى: ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )"سورة البقرة الآية256 "، في حين عمدت الحكومات المسيحية في أوروبا على إبادة المسلمين في الأندلس وتخريب مساجدهم وإحالتها إلى كنائس، وخلال استيلاء الصليبيين على بيت المقدس ذبحوا سبعين ألف مسلم في يوم واحد وحطموا رؤوس الصبيان، وألقوا الرضع من أسوار الحصون، وبقروا بطون الحوامل، وقد اعترف منصفو الغرب بتسامح المسلمين مع الأقوام التي انضوت تحت لواء الإسلام وما نالوه من الحرية في ممارسة الشعائر الدينية ونذكر هنا قول "كوتيه" الفرنسي ما نصه: "لقد ثبت أن الفاتحين من العرب قد بلغوا درجة عظيمة من التسامح لم تكن متوقعة من ناس كانوا يحملون عقيدة جديدة. إن العربي لم يفكر قط وهو في أوج تحمسه لدينه الجديد أن يطفئ بالدم دينا منافسا لدينه". وقال روبرتسون:" إن أتباع محمد هم الأمة الوحيدة التي جمعت بين التحمس في الدين والتسامح فيه، أي إنها مع تمسكها بدينها لم تعرف إكراه غيرها على قبوله. وقال الأب ميشون "إنه من المحزن للأمم المسيحية أنهم لم يتعلموا التسامح الديني من المسلمين". إن هذه المواقف الإنسانية المشرفة لنبي الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم دليل على المساواة واحترام الآخر دينا وإنسانية، وإننا نسوق هذه الأمثلة التي هي قليل من كثير وغيض من فيض، وهي كفيلة بالرد على الإساءة المتعمدة لديننا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي يعتمد المتعمدون إطلاقها كل مرة. الهوامش: 1- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (فصل في المكافأة بالصنائع رقم 8829 عن أبي قتادة. 2- أخرجه البيهقي في دلائل النبوة )في باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم رقم 2126 . 3- أخرجه البخاري في (باب من قام لجنازة يهودي 1228 ) من جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 4- أخرجه البخاري في (كتاب الجزية ، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم رقم 2930 ) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه.
د. رحيم الهاشمي