مقال يحكي واقع المبتعثين السعوديين .. كتبته فتاة .. حفظها الله
بقلم: سامية الشهري – بريطانيا
لطالما خططتُ كثيراً لكتابة هذا المقال ، و دوّنتُ الكثير من النقاط التي أتطلع لأن أتطرق إليها في هذه السطور..لكنني كنتُ كمن يقدّم رجلاً و يؤخر أخرى .. فالحالة النفسية متقلّبة جداً ..و لا أرى نفسي إلا أنني وقعتُ فريسة ً للحالة التي يسمّونها بـ(الصدمة الحضارية Culture Shock )
و تجاوزتُ المرحلة الأولى منها التي تُدعى (مرحلة شهر العسل ) .. التي يبقى المغترب فيها مبهوراً بقناع الحضارة الجديدة التي (اصطفاه) الله(!!) لتذوق حلاوتها – إن صح التعبير- .
ثم ينقشع هذا القناع المزيّف عن وجهٍ أسودٍ مكفهرٍ عبوسٍ قمطريرٍ ، يجعل المرء يتمنى لو يتردى من شاهقٍ (عياذاً بالله)، أو أنه يغمض عينيه ثم يفتحها ليجد نفسه في مطار بلده ليُقبّل الثرى الطاهر و يذكر محاسن بلده التي لم يكن ليعرفها لو لم يضرب في الأرض و يمشي في (مناكبها) التي لا تشبه(مناكب) بلده و لا حتى (مناقبها).
هذه المرحلة يكون لسان الحال فيها : (كل شيءٍ سيء ) Every thing is awful
وما زلتُ (أتأمل) و أرجو الله عزوجل أن أنتقل للمرحلة التي تليها ، و يسمونها مرحلة (كل شيء على ما يُرام Every thing is OK (أتمنى ذلك ) !!
ليس من السهل لشخصيةٍ مثلي تربت في أحضان (السلفية) و هدهدتها حياة (التديّن) و (الدعوة) ، أن تختار أن تُغامر لتعيش في (غير هذه الأجواء) فيصبح الهواء (لا كالهواء) و لا تشبه الأرض (الأرض) و لا السماء (السماء) ...
سافرتُ مع زوجي إلى بريطانيا للدراسة هناك ، ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي (و قد سبق لزوجي العيش قبلي في الخارج ) . و كان (حسن الظن) أن بريطانيا (خيارٌ أمثلٌ ) للدراسة فيها .و أن (سقف الحريات) و (التعددية الثقافية) موجودة هناك بشكلٍ يسمح لنا أن نعيش (أحراراً) [لا لنا و لا علينا ]، حتى نقضي حاجتنا و نعود بشهاداتنا بإذن الله سالمين .
اختار زوجي أن نعيش في إحدى ضواحي لندن(رغم غلاء المعيشة فيها) ، التي يقل فيها العرب و السعوديون ، و قد فرحتُ بهذا القرار (حتى يكون مناخ ممارسة اللغة متاحاً لي بشكل أفضل) .
والحق يُقال: أن المكان الذي اخترنا العيش فيه ، يُصنّف على أنه من أكثر المناطق (أماناً) في بريطانيا ، و نسبة الجرائم فيه أقل بكثير من غيره. و لا أبالغ إن قلت: أن المنطقة هذه جميلة جداً ، وفيها جميع الخدمات ، و منزلي بجانبه موقف الباص ، وعلى بعد أمتار منه محطة القطار ، وبجانبي السوبرماركت و المحلات التي أجد فيها كل الاحتياجات و المستشفى والمكتبة العامة و مدرسة اللغة ، و حدائقٌ تسلب الألباب . فلا يكاد ينقصني شيء بفضل الله ...
إلا .... صوت الأذان ..و إقامة الصلوات ...
هنا الشعب البريطاني يكدح (بجدٍ واجتهاد) طوال الأسبوع ، وما يجنونه من مالٍ ينفقونه آخر الأسبوع في السهر و الشراب ، وهكذا ...حياتهم بلا روح.
لاحظتُ فيهم كثرة الأمراض العصبية ،كشلل الرعاش و التصلب اللويحي و الزهايمر و غيرها . فهل هذا بسبب الخمر ، أم بسبب ضغوط الحياة و الظروف الاقتصادية؟؟، الله أعلم.
لطالما تعوذّتُ بالله من (جار السوء) ..لكني جاورتُ كنيسةً ضخمةً جداً .. تُؤدى فيها صلوات الأحد ، و لا أدري أي نوعٍ من الموسيقى تُعزَفُ فيها بشكل مزعجٍ أحياناً ، و تدقُّ أجراسها على رأس كل ساعة (ليلاً و نهاراً) ، بل و أظنُّ أنها تدقُّ في الساعة السادسة مثلاً ست مرات ، و السابعة سبع مرات و هكذا ... و إذا كانت هناك حالة (وفاة) استمر (رنين أجراسها ) لمدة طويلة ..[نسأل الله حسن الخاتمة على خير عمل].
لم يشتكي أحدٌ من – بني الأصفر- أن هذه الكنائس مزعجة (مع أنها مزعجةٌ حقاً) ، و لم (يُجيّش) أحدٌ منهم قلمه لمناقشة هذا الأمر ، ولم تحصل (حملات الكُتّاب الصحفيين) كالتي تحصل عندنا لإسكات صوت المآذن أو لإغلاق ميكروفونات المساجد بحجة أنها تُزعج السكان و توقظ النائمين و تخيف الأطفال ، كما حصل في بلادي (المسلمة) [فيا عجبي!!].
وقفة : أريد أن أكمل ، فلا أدري أأبدأ بسرد الإيجابيات فتقولون عني (مُعجبةٌ بحضارة القوم) ، أم أسرد السلبيات فتقولون عني (متحاملةٌ ضد الآخر)كما يحب البعض أن يسمّيهم ؟؟؟!!!
بطبيعة الحال ..كنتُ قد قررتُ سلفاً أن أواصل تعليمي في هذه البلاد و أنا أرتدي (النقاب) و أعددتُ العدة لذلك بألوان مناسبة ٍ ، حتى أبقى في الـsafe side
أول الصدمات التي رأيتُها في الطائرة : حينما اقتربنا من مطار هيثرو ، بدأت بناتُ بلدي بطيّ عباياتهنّ و التبرج الكامل ، بدون أي حرج (!!)
و رأيتُ الكثيرات منهنّ يفعلن ذلك ، بحجة أنهنّ خائفات على أنفسهنّ من (المضايقات) ، و نسين أن ( الله لا يجمع على عبدٍ خوفين ، و لا يجمع عليه أمنين ، فمن أمّنه الله في الدنيا خوّفه في الآخرة ، و ومن خوّفه الله في الدنيا أمّنَهُ في الآخرة)كما جاء في الحديث الشريف ..
لم أكن أعلم أن المنطقة التي فرحتُ بالسكن فيها ، يسكن فيها (إنجليز) (عنصريون ) و (متعصّبون) و خاصة ً (كبار السن ) منهم . و السبب برأيي أن هذه الضاحية الصغيرة فيها كل الخدمات ، فلا يحتاج أهلها للسفر إلى وسط لندن ، وبالتالي مشاهدة الناس من الأطياف و الأديان الأخرى من السائحين وغيرهم. فكان وجودي في هذه المنطقة بهذا المظهر (غريباً جداً) .. و بـ(النقاب ) أيضاً ؟؟ (يا نهار أبيض)
في البداية كنتُ مع زوجي لنشتري بعض الحاجيات ، و إذا بشخصٍ ينادي زوجي و يقول له : (أنا بدي آكل لحم خنزير.. أنا بدي آكل لحم خنزير) ، فالتفت له زوجي وهو يبتسم ساخراً و ذهبنا .
وكنتُ أقول لزوجي حينها : إنه يقصد السخرية من ديننا ، فقال لي : لا ، لا تكترثي للأمر .(كان يريد بذلك أن يهوّن عليّ)
و مرةً كنّا نسير و إياه ، فعبر أحدهم بسيارته و قال كلاماً لم أفهمه لأنه كان مُسرعاً، ولكنه كان يسبُّني أنا و زوجي .
و في مرةٍ كنتُ أسير أيضاً فوقف في طريقي عدد من طلاب المدارس المراهقين ، وقالوا كلاماً بذيئاً وهم يقصدوني ، و لا تنسوا الكلمة المشهورة القذرة التي تبدأ بحرف الـF …… فقد سمعتها تُقال لي ذلك الوقت .
كنتُ حينها متماسكة و لا أبالي ، لأن هذه المضايقات كانت بشكلٍ متباعدٍ جداً ، و كنتُ لا ألتفتُ لها ، و بدأتُ دراستي ، و صرت أخرج لوحدي كل يومٍ لمعهد اللغة ، و أعودُ و أتبضّع لوحدي حاجيات المنزل ، و لم أكن أشكو من أي شيء ..
كان رصيد قوتي عالياً جداً ، كنتُ أرى نظرات الناس تتكرر باستمرار و لها معانٍ كثيرة ، فبعضهم ينظر باستغراب ، و بعضهم باحتقار ، و بعضهم بسخرية ، و بعضهم بشفقة ... و هكذا ..
إلى أن أتى ذلك اليوم الذي أتت فيه صديقتي لزيارتي في إجازة الأسبوع ، و خرجتُ معها بعد تناول الغداء للتنزه في وسط البلدة ، و أثناء عودتنا ، كان هذا هو الوقت الذي ابتدأ الناس فيه باحتساء الخمور و تجمّعوا في الطرقات التي تحفّها البارات ذات اليمين و ذات الشمال ، و هناك تعرّضنا لمضايقاتٍ تشبه (أفلام الرعب) أو (كوابيس الشيطان) فصاروا يقتربون منّا و يصرخون في وجوهنا بشكلٍ مخيفٍ جداً (و لاتستطيع أن ترد عليهم أو حتى أن تشكوهم للشرطة فهم مخمورون أصلاً)، و حينها أصابتني رعدة خوفٍ ليس لها مثيل، وكان كل ما علينا فعله هو أن نتحاشاهم كأننا لم نراهم ، حتى وصلنا للبيت ، و اضطرت صديقتي أن تذهب لمحطة القطار-مع قربها الشديد- بواسطة التاكسي بسبب خوفنا من مزيد من المضايقات (والتاكسي هنا يُستدعى بواسطة الهاتف ،بمجرد إعطائه الرمز البريدي للسكن الذي نحن فيه ) [آه على بلدي التي تعرف العناوين فيها بـ (أول لفة يمين ، وثالث زبالة على اليسار)] .
بعد هذا الموقف اهتّزتْ قوتي قليلاً ، لأن الخوف بدأ (ينخر) هذا التماسك الذي كنتُ (أتحلّى) به.
و مع الوقت ازداد تكرر المضايقات لي في الشارع ، أحدهم قال لي : (اخلعي عبايتك أو ارحلي من بلدنا ) و أخرى (عجوز في الغابرين) ، قالت لي : أنت غبية ، و أخرى هندوسية كالت لي الكثير من السباب الذي لم أفهمه . و الكثير من العبارات مثل : (الموت لك) ، (منظرك سيء)، و نحو ذلك..
فاضطررت بعد ذلك لاستخدام الباص حتى أذهب للمدرسة ،رغم قربها من بيتي .
و هنا حدث لي ما لم أتوقعه ، من سائق الباص الذي أركبه باستمرار . حيث أنني مرةً كنتُ أنتظر قدومه لأعود للبيت ، فلما شاهدني وحدي ، تركني و ذهب ، و لم يتوقف لي ، رغم أنني أشرتُ له بطلب التوقف ، فظننتُ في البداية أنه خطأ غير مقصود . لكن في المرة الثانية ، أشار لي بتعابير وجهه أنه لا يريدني أن أركب أو أنه متضايق من وجودي في الباص . و كانت هذه (القشة ) التي قصمتْ ظهر البعير .. فانهرتُ تماماً ، وأصبحتُ كثيرة البكاء ، و توترتْ علاقتي مع زوجي ، لأنه كان يظن أنني سأكون أقوى و سأتحمل كل تبعات اختياري للبس النقاب و الدراسة في الخارج، لكني أصبحتُ أبكي بشكل هستيريٍ باستمرار ، وتأثرتْ صحتي كثيراً ، و أصبحتُ أتغيب عن الحضور للمعهد ،بسبب خوفي من الخروج للشارع ، و أصبح جسمي يترجم هذا الخوف عن طريق آلامٍ متفرقة تعتريني بين الفينة والأخرى.وكدت أن أرسم عن البريطانيين صورة نمطية سلبية ، لولا أن هناك نماذج إيجابية تجعلني أكثر اتزاناً في إصدار الحكم [ و رغم أن أحد الشيوخ الثقات في السعودية عندما شرحت له وضعي أفتاني بجواز كشف وجهي بالضوابط المعروفة ، إلا أنني لم أتسرع في تطبيق هذه الفتوى ، لأن الأذى الذي تعرضتُ له لم يتجاوز الكلام ، و حتى لا يقول المحيط الذي أعيش فيه من طلابٍ و مدرسين أنني ضعفت و غيّرت قناعاتي من أول شهر حللتُ فيه هنا ]
أعود لقصتي:اضطررتُ لمراجعة (المستوصف) [الذي يعادل بحجمه أكبر مستشفى في بلدي] ، و أثناء ذلك طلبتُ من أحدهم مساعدتي ليدلني على الطريق ،فرفض مساعدتي لأني أرتدي النقاب ، وقال لي : لن أخدمك حتى تخلعي النقاب و يرى الناس وجهك . وذهب . فازددتُ مرضاً على مرضي . و ذهبتُ للطبيب الذي أحالني لإجراء فحوصات كاملة .
طبعاً ، النظام الصحي هناك ، لا يمكن أن يُقارن بحال ، بالنظام الصحي في بلدي . بدءاً بالمعاملة الحسنة التي تلقاها من العاملين في القطاع الصحي، مروراً بالتنظيم الفائق و احترام الوقت و الاهتمام بالأطفال (وبمهارة القراءة لديهم حتى في المستشفيات).
بالنسبة للحياة الدراسية ، فهي جميلة و ممتعة . مع وجود بعض الصعوبات التواصلية مع الآخرين (لكنها ليست بذات أهمية قصوى) ، وهذه الصعوبات تكمن في رفض الكثيرين ممن حولي لارتدائي للنقاب وتحاشيهم للتعرف عليّ أو الحديث معي ، حتى أبتدرهم بالأمر ، فإذا عرفوني جيداً زال الخوف من نفوسهم .
ابتدأت دراستي في الصيف ،وهو التوقيت الذي يفد له الطلاب من جميع أنحاء العالم لدراسة اللغة في لندن.قابلت الكثير من الأطياف و الأجناس . و الإناث هنا وخاصة في الصيف لا يكدن يسترن إلا القليل من أجسادهن . و لا أعتقد أن هذه الأجواء المختلطة (صحية ) مطلقاً . و الدارس هنا سيرى بأم عينيه كيف تتنقل الفتاة من صاحبٍ إلى صاحب ، و الشاب كيف يضم هذه و يلثم تلك . و الإشكال الذي رأيته (و أزعجني حقيقةً) هو أن الكثير من طلبتنا و طالباتنا السعوديين (راحوا فيها) – إن صح التعبير- .والحقيقة أننا نعاني من غياب الوعي في حدود التواصل بين الجنس الآخر. و نحن بصراحة للأسف الشديد لا نطبّق المعايير الدينية و لا المجتمعية التي تعلمناها في بلادنا وفي مدارسنا ، بل سرعان ما نذوب في بوتقة الآخر (حيث الماء والخضرة و الوجه الحسن)، فنقبل مصافحة الجنس الآخر ، و نقبل الصداقات خارج إطار الزواج ، و نقبل الذهاب للبارات و النوادي الليلية ، وووو ... و كأننا لسنا إلا من بقية القوم – إلا من رحم الله تعالى- .
واجهتني العديد من الأسئلة حول ديني و بلدي و حجابي من ضمنها :
- هل تشعرين بالخجل و أنت ترتدين هذا اللباس ، و لايرى أحدٌ زينتك؟
- هل تظلّين هكذا حتى في بيتك؟
- هل أنتن مجبرات لارتداء هذا النقاب أو الحجاب أم أنه باختياركن ؟ و في أي مرحلة عمرية يُفرض عليكن ؟
- لماذا هناك سعوديات لا يلبسن الحجاب ، وسعوديات يلبسن الحجاب ؟ ألستم من بلد ودين واحد؟
- إذا كان الخمر ممنوع في بلادكم ، فمعنى ذلك أنه بلد غير صالح للسياحة ، فهل هذا صحيح؟ (هذه أجبتُ فيها ، وقلت : قد يكون في نظركم غير صالح للسياحة ، لكن منع الخمر فيه جعله أكثر أماناً ) وكان جواباً مسكتاً .
- هل الزواج يبدأ عندكم من سن مبكرة ؟ وهل هناك علاقات خارج إطار الزواج ؟ وكيف يختار الرجل شريكة حياته ، و المرأة شريك حياتها؟
- ما رأيك في النساء الغير مسلمات ، هل هنّ في نظرك قذرات و عاهرات ؟
- الكثير منهم تفاجئوا عندما علموا أن التعليم عندنا (غير مختلط) و بخاصة مدير المدرسة التي أدرس فيها ، كانت هذه بالنسبة له معلومة جديدة .
أما تعامل المدرسين والمدرسات و فريق العمل في تلك المدرسة ، فهو أكثر من رائع ، وليس هناك فرق بين أي جنسية أو لون أو ديانة .الكل يُعامل هنا باحترام . بل إنهم يرشدوننا لأقرب جامع إذا أردنا الصلاة . و أحياناً إذا احتجتُ لأداء صلاة الظهر في المعهد يبحثون لي عن مكان فارغ ، بل والله أن أحدهم ذهب لإحضار جهاز بوصلة ليساعدني في تحديد اتجاه القبلة (و هو غير مسلم) .
المشرفة الطلابية حاولت سؤالي أكثر من مرة (على طريقة الصيد في الماء العكر، وجسّ النبض) : ما رأيك لو خرجتِ معي الآن إلى حديقة المدرسة أمام الطلاب بدون غطاء للوجه ؟ هل هذا محبب ٌ إلى نفسك ؟ ، فقلتُ لها : لا ، هذا اعتقادي ،وهذا اختياري .
ومن ثم قالت لي :لو زرتُ بلادكم السعودية ، هل سألبس مثلكم ، أم أن عندكم حرية أن يلبس المرء ما يشاء ؟ .قلتُ لها : هناك حرية لكنها لا تتنافى مع الآداب العامة ، يجب عليك أن تلبسي لباساً طويلاً و تغطي شعرك على أقل تقدير .
إحداهن (بريطانية عمرها 50 سنة، صاحبة الشقة التي استأجرتها) كانت تناقشني في حجابي ، أثناء وجودها معي في الشقة ، ثم اشتكت لي من خيانة زوجها السابق لها مع امرأة أخرى ، فاقتنصتُ الفرصة لأقول لها : ولذلك عندنا الحجاب مهم ، حتى لاتقع مثل هذه الخيانات و لا ينظر الزوج إلى امرأة أخرى لأن النساء كلهنّ محجبات فلا يحصل الافتتان بهنّ. فاضطربت ثم قالت : أنا أحترم ثقافتك ، وربما يكون الأمر صحيحاً .لكن ليت العالم يصبح ديناً واحداً و يعمه السلام .(هي تقصد أن تصبح الأديان السماوية ديناً واحداً ، كدتُ أن أقول لها : إن الدين عند الله الإسلام)
هذه مقتطفات من تجربتي في إحدى بلاد الابتعاث (المُفَضّلة لدى السعوديين) ، و الحقيقة أنني استفدتُ و رأيتُ الكثير من الإيجابيات هنا في هذا البلد ، سأذكر طرفاً منها :
- المكتبات العامة في كل مكان ، و مفتوحة من الثامنة صباحاً حتى التاسعة ليلاً (على الأغلب)،و فيها ترتيب يبهر الزائر ، تستطيع فيها استعارة الكتب المقروءة و الصوتية ، وأقراص الدي في دي و السي دي و الأفلام و تصفح الانترنت و غيرها من الخدمات المهمة .و أكثر ما أعجبني النظام الالكتروني الذاتي للاستعارة أو لإعادة الكتب أو لتسديد الرسوم ،حيث لا تحتاج فيه للرجوع للموظف ، وفي هذا تسهيل كبير على الناس .بالإضافة إلى قسم الأطفال (الذي أدهشني حقاً) و الكثير من الفعاليات المُقامة فيه لتعزيز حب القراءة في نفوس الأطفال .[ والذي نفتقد مثله في بلادنا للصغار و للكبار] . و الحقيقة أن الشعب هنا يقدّس القراءة ، فكثيراً ما تجدهم يقرأون في الطريق ، وفي القطار ، و في صالات الانتظار .
- أعجبتني أيضاً وجود الكثير من المحلات التجارية (باسم مؤسسات طبية خيرية لمرضى السرطان ، أو القلب ، أو لرعاية المسنين ) يقومون ببيع الملابس و الأدوات المنزلية والقرطاسية والهدايا و التحف و الكتب المستعملة، بطريقة جميلة و بأسعار معقولة (ليعود ريعها لتلك الجهات) . وكم أتمنى لو أن الجهات الخيرية في بلدي طبّقت مثل هذه الأفكار بطريقة حضارية ، لتشجّع الناس على المساهمة فيها و لتعريف الناس بأنشطتها بشكلٍ أوسع .
- الإسلام دينٌ تكفّل الله بحفظه ، فعلى الرغم ما وجدتُ من المضايقات ، إلا أنني وجدتُ نماذج إيجابية ومشرفة ، هناك غير مسلمين عقلاء يحترموننا ويتفاعلون مع قضايانا . و هناك الكثير من المسلمين يعملون في قطاعات المجتمع المختلفة من أطباء ومهندسين وتقنيين ومعلمين ، بكل كفاءة . وأذكر على سبيل المثال : معلم لغة انجليزية (من قبرص التركية المسلمة) لا أبالغ إن قلتُ أنه بزّ أمثاله من المعلمين أصحاب اللغة الأصلية في تدريسه وأخلاقه وكفاءته ، وقد استفدتُ منه كثيراً . وكذلك أخصائي مختبر ،قام بسحب عينة دم مني ، وسمعته يسمّي بالله أثناء سحب العينة، وسترني –ستره الله في الدنيا والآخرة- حتى لا يراني أحد ، ثم قال لي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( تلك التحية التي أشعر بنشوةٍ روحيةٍ عندما أسمعها) . [ ومن تغرّب في الأمصار فسيعرف قيمة هذه التحيّة و جمال كلماتها]. وهناك الكثير من المسلمين هنا أيضاً يديرون العديد من المطاعم الناجحة أو المواد الغذائية واللحوم الحلال ، ونحو ذلك.
هذا ما تيسّر لي كتابته في هذا المقال – و أعتذر إن أطلتُ عليكم – لكنني أحببتُ أن أقول بعد سرد تجربتي المتواضعة ، أن برنامج الابتعاث سلاحٌ ذو حدين ، و أن شبابنا و فتياتنا يحتاجون للكثير من (التحصين) الفكري والديني والمعرفي قبل سفرهم (لا تكفي ثلاثة أيام ملتقيات للمبتعثين) . و يحتاجون متابعة نفسية و توجيهية وتعليمية بعد سفرهم عن طريق الملحقيات الثقافية .(للأسف الملحقيات الثقافية لا تقوم إلا بالدور الإداري و المالي فقط) وجميع الطلبة يشهدون بصحة كلامي هذا . فأتمنى لو تُعنى وزارة التعليم العالي بهذا الأمر . لأن هناك من يتقاذف عقول طلابنا و هناك اختلافات قيمية و دينية و ثقافية قد لا يستطيع أي أحد تحمل وجودها دون الانخراط فيها أو الانعزال التام عنها ، وعقولنا في هذه المرحلة العمرية و خبرتنا القليلة في الحياة تجعلنا لا نحسن التصرف و اتخاذ القرارات في كثير من الأمور ، فنحن بأمس الحاجة لذوي الخبرات من أساتذتنا و الكفاءات عندنا و لو بشكل دوريٍّ متقطّع حتى يرشدونا بإذن الله لما ينفعنا .
اسأل الله عزوجل أن يكون في معيّتنا و يحفظنا بعينه التي لا تنام ، حتى نعود لبلادنا سالمين غانمين غير مبدلين و لا مغيّرين ، على الحق ثابتين ، ولسنة الله ورسول متبّعين . و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته..